الجنّة والنّار
(إنّ الّذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كانَت لَهُم جَنّاتُ الفِرْدَوس نُزُلاً * خالِدِينَ فيها لا يَبْغونَ عَنْها حِوَلاً ) . ( الكهف / 107 ـ 108 )
(ولَقَد خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سلالَة مِن طين * ثُمّ جَعَلناهُ نُطْفَةً في قرار مكين * ثُمّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْماً ثُمّ أنْشَأناه خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخَالِقِين * ثُمّ إنَّكُم بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتونَ * ثُمّ إنّكُم يَوْمَ القِيامَة تُبْعَثُون ) .
( المؤمنون / 12 ـ 16 )
(قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنونَ * الّذينَ هُمْ في صَلاتِهِم خاشِعُونَ * والّذينَ هُم عَن اللغْوِ مُعْرِضُون * وَالّذينَ هُمْ لِلزّكاةِ فاعِلُون * والّذينَ هُم لِفُرُوجِهم حافِظون * إلاّ عَلى أزْواجِهِم أو ما مَلَكَت أَيْمانُهُم فإنّهُم غَيْرُ مَلُومين * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلكَ فأولئكَ هُم العادُون * والّذينَ هُم لأماناتِهِم وعَهْدِهم راعُون * والّذينَ هُم على صَلَواتِهم يُحافِظُون * أولئكَ هُم الوارِثُون * الّذينَ يَرِثُون الفِرْدَوس هُم فِيها خالِدُون ) . ( المؤمنون / 1 ـ 11 )
(وَفيها ماتشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وتَلَذُّ الأعيُنُ وَأنتم فيها خالدونَ ) .
( الزخرف / 71 )
(بَلى مَن كَسبَ سيِّئةً وأحاطَت بهِ خَطيئتُهُ فأولئكَ أصْحابُ النّارِ هُم فيها خالِدونَ * والّذين آمَنُوا وَعملُوا الصّالِحاتِ أولئِكَ أصْحابُ الجنّةِ هُم فيها خالِدونَ ) . ( البقرة / 81 ـ 82 )
(إنّ الُمجْرِمينَ في عذابِ جَهنَّمَ خالِدونَ * لايُفَتَّرُ عَنْهم وَهم فيه مُبْلِسُون ) . ( الزخرف / 74 ـ 75 )
(إنّ الّذينَ يسْتَكْبِرُون عَن عِبادَتي سَيَدخُلُون جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) .
( غافر / 60 )
(ما سَلَكَكُم في سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّين * ولَم نَكُ نُطْعِمُ المِسْكينَ * وَكُنّا نخُوضُ مَعَ الخائِضين * وكُنّا نُكَذِّبُ بيومِ الدِّين * حتّى أتانا اليَقينُ * فَما تَنْفَعُهُم شَفاعَةُ الشّافِعين ) . ( المدثر / 42 ـ 48 )
إنّ الآيات من الرقم (13) حتى الرقم (16) من سورة المؤمنين تتحدّث عن رحلة الإنسان ومساره في عوالم الدّنيا .
فمن التراب إلى الرحم إلى الحياة الدّنيا . وهي تصور عظمة الله وقدرته على الخلق . وكانت الآيات من الرقم (1) حتى الرقم (13) قد تحدّثت عن عالم الآخرة ، فالجزاء والنعيم الخالد، كما تحدّثت آيات أخرى عن العذاب والشقاء في جهنم .
وفي هذه الآيات صفة المستحقين للجنّة الوارثين لها ، وصفة المجرمين المستحقين للعذاب والشقاء .
إنّ الإيمان بالله الواحد الأحد ، المتَّصف بصفات الكمال المطلق ، المنزَّه عن النقص هو الأساس الّذي يبنى عليه استحقاق الجنّة والنّار .
فالكافرون والمشركون خالدون في العذاب لايفتر عنهم ولا يخرجون منه بسبب كفرهم أو شركهم .
أمّا المؤمنون بالله، الموحدون له، فهم صنفان : صنف عرف الله فأطاعه فاستحق النعيم منذ لحظة دخوله عالم البرزخ ثمّ الانتقال إلى الجنان والنعيم الخالد .
أمّا مَنْ جهل الله سبحانه فعصاه من الموحدين، فكما تشير الآيات والروايات، أنّ بعض العاصين تنفعهم الشفاعة فتنقذهم من العذاب فيُنْقلون إلى الجنة والنعيم .
ومنهم مَن لاتناله الشفاعة فيدخل النار ليعذب فيها ما شاء الله من العذاب المستحق ليخرج بعدها إلى عالم الجنان والخلود .
والجنّة والنّار عالمان مخلوقان، وهما كما وصفهما القرآن، ففي الجنّة ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين اشتهاءً وتلذذاً حسّياً وعقلياً ونفسياً ، كما يتلذّذ الإنسان في عالم الدنيا ، غير أن لذّة الآخرة لذة نقية خالصة ممّا يكدِّرها من الشوائب والمنغصات .
أمّا أهل العذاب فإنهم يعانون فيها أشد المعاناة ويذوقون أهوال العذاب والحريق بصوره الحسِّية والنفسيّة والعقلية كما يقاسي الإنسان الآلام في عالم الدنيا ، غير أن ذلك العذاب لا يُدانيه شيء من عذاب الدنيا وآلامها ، مهما اشتدَّ الألم والعذاب فيها .
ويصف القرآن موضع الجنّة وسعتها فيقول :
( النجم / 13 ـ 15 )
(وسارِعُوا إلى مَغْفِرة مِن رَبِّكُم وجنّة عرضُها السّموات والأرض اُعِدّت للمتَّقين ) . ( آل عمران / 133 )
(سابِقُوا إلى مغفرة مِن رَبِّكُم وجنَّة عَرضُها كَعَرضِ السّماءِ وَالأرْض ) . ( الحديد / 21 )
وهكذا يبرز القرآن تعريفاً من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فيتحدّث عن جنة المأوى ويوضح أنها عند سدرة المنتهى .
وسدرة المنتهى كما يفهم من قرينة بيئة العقل العربي المخاطب : هي كناية عن موضع منتهى الرحلة في عوالم الشهادة التي تختفي ليظهر عالم الغيب بما فيه من جنّة ونار، والجنّة كما أفاد منطوق الآية هي عند تلك النهاية من عالم الشهادة .
ثمّ يتحدّث في موقع آخر عن سعة الجنّة فيوضّح أن عرضها عرض السّماوات والأرض أو كعرض السّماء والأرض .
وسُئِلَ رسول الله (ص) عن تأويل هذه الآية : (إذا كانت الجنّة عرضها السّماوات والأرض فأين النّار ؟ قال : سبحان الله، إذا جاء النهار فأين الليل) (24) .
ففي هذا التصوير للجنّة تقريب لفكرة وحدة المساحة التي تحوي المتناقضين الليل والنهار دون أن يتزاحما .
ويزداد هذا المفهوم وضوحاً في قول الرسول الكريم (ص) :
(الجنّة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنّار مثل ذلك) (25) .
ونحن نستطيع أن نتصور تأويل هاتين الآيتين الوارد في الحديثين الشريفين عندما نعلم أن الدراسات والأبحاث الفيزيائية قد أثبتت أن هناك عوالم متداخلة بعضها مع بعض تختلف في كثافتها وحركتها واهتزازها بشكل يجعلها في مساحة مكانية واحدة ، فقد اكتشف العلماء وجود العالم النقيض ، الذي يساوي عالمنا ويخالفه بالطبيعة ويتداخل معه في المكان .
وإنّ قراءة علمية للآيات التي تحدثت عن سعة الجنّة والبيان النبوي الذي قام بتقريب المفهوم للعقلية المعاصرة له توضح لنا تأويل الآيتين المذكورين آنفاً ، سيّما قول الرسول (ص) :
(الجنّة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله الذي يحيط بقدمه) .
فهما عالمان موجودان وقريبان من عالمنا بالمسافة التي صورها الحديث الشريف، ولكن طبيعتهما النوعية تجعلهما عالمين متداخلين كما يتداخل العالم النقيض المادي مع عالمنا المادي هذا .
ولعلّنا نجد إيضاحاً لهذه الحقيقة العلمية في قوله تعالى :
(يَوْمَ تَرى المُؤْمِنينَ والمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُم بَيْنَ أيدِيهِم وبِأَيْمانِهِم بُشْراكُمُ اليَوْمَ جَنّات تَجري مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدينَ فيها ذلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) . ( الحديد / 12 )
(يوم يقولُ المُنافِقون (26) والمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونا نقْتَبِسْ مِن نورِكُم قِيلَ ارجِعُوا وراءَكُم فالتَـمِسُوا نوراً فضُرِبَ بينَهُم بسُور لَهُ بابٌ باطِنُهُ فيه الرَّحمَةُ وظاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذابُ ) . ( الحديد / 13 )
فالآية تتحدّث عن حاجز بين الجنّة والنّار، باطنه فيه الرّحمة، أي الجنّة والنعيم، وظاهره من قبله العذاب .
وتأويل الآية يقرِّب فكرة تداخل العوالم في ساحة واحدة والاختلاف في الطبيعة والنوعية، كما تتداخل الأمواج وأنواع الأشعة والمادة في عالمنا المادي المحسوس .
والسور : هو الحاجز النوعي بين العالمين، فلا عالم الجنّة يختلط بعالم النار، ولا عالم النّار يتسرب إلى عالم الجنّة